تتنازع المرء في هذه الحياة دوافع وغايات عديدة.. فهو لما غلب عليه منها!
فمن الناس من همَّه المال.. يسابق إلى المليون، فإذا حازه تمنى المليار.. ثم حاول بعد ذلك أن يحفر لاسمه مكاناً في موسوعة "أغنى الأغنياء".. وهكذا دواليك في دائرة لا تنتهي، كما في الحديث القدسي: "لو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون له ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب" (رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني)!
ومن الناس من همه الجاه.. يغشى المجامع والمجالس، ويتصدر بحق أو باطل؛ من أجل مكانة وحظوة وشرف، حتى لو اضطر لجرح دينه في مجلس لا تُرفع فيه راية للديانة؛ فيقدَّم المكانة على الديانة؛ ولا يدري أنه بذلك قد يفتك بأغلى ما يملك فتكا ذريعاً؛ كما قال نبي الهدى صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"!
ومن الناس من يهدر عمره في لزوم ذيول القوافل، ومسح الأعتاب، فلا همة ولا قيمة..، بل "يبيع دينه بدنيا غيره"، فهو أخسر الناس صفقة؛ كما جاء في الأثر!
والناس بين ذلك أصناف شتى متفاوتة.
وهم في الخير كذلك أصناف شتى، لكنهم "كإبل مئة، لا تكاد تجد فيها راحلة" (رواه البخاري ومسلم)!
وكثيراً ما نردد "قيمة كل امرئ ما يحسنه".. نحسبها من بدائع المأثور، وليست صواباً على إطلاقها، بل عدها العلماء من كلام العامة!.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلبه"!
وقد صدق ونصح؛ فإن شرف المرء مرتهن بغايته،.. وأسمى الغايات، بل الغاية الحق (وما سواها باطل، إن لم يكن تابعاً لها): رضوان الله عز وجل.
فلله در طلابها! أقوام يحيون بيننا غرباء.. كعابري سبيل ينتظرون الرحيل من سجن الدنيا! تعرفهم بسيماهم؛ نطقهم ذكر، وصمتهم فكر، ونجواهم أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس..، ما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم!
فإلى كل من بقي حياً لم يدركه الأجل.. وما زال في زمن ينفع فيه العمل:
تدبر في هذه الآيات العظيمة الكريمة:
{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}.
ثم قل لي: ماذا تطلب؟! أقل لك من أنت!! والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.